الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وان وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلًا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر.وجعل بعضهم {بِجِذْعِ النخلة} في موضع الحال على تقدير جعل المفعول {رُطَبًا} أو الثمرة أي كائنة أو كائنًا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغنى، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] وقول الشاعر:
والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول، وقول الفراء: إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه {تساقط} من ساقطت بمعنى أسقطت، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع الضمير للمضاف إليه شائع، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا.وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر: وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح.وقرأ مسروق، وأبو حيوة في رواية {تُسْقِطَ} بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف، وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت.وقوله تعالى: {عَلَيْكِ رُطَبًا} في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذًا على أرطاب كربه وأرباع، وعن أبي حيوة أيضًا أنه قرأ {تُسْقِطَ} بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضًا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب {رُطَبًا} على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية.وقرأ أبو السمال {تتساقط} بتاءين.وقرأ البراء بن عازب {يساقط} بالياء من تحت مضارع أساقط.وقرأ الجمهور: {النخلة تساقط} بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضًا.وجوز في بعض القراآت أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراآت فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله على ما سمعت {جَنِيًّا} أي مجنيًا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحًا للاجتناء وفي القاموس ثم جنى جنى من ساعته.وعليه قيل المعنى رطبًا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجنى أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبًا طريًا، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه.وقرأ طلحة بن سليمان {جَنِيًّا} بكسر الجيم للاتباع ووجه التذكير ظاهر.وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب:كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر.روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم أخضر فصار بلحًا ثم أحمر فصار زهوًا ثم رطبًا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا، وقيل عجوة وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبي روق.وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل: {فَكُلِى} من ذلك الرطب {واشربى} من ذلك السرى.وقيل: من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السرى بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولًا والطعام ثانيًا ثم الأكل ثالثًا والشرب ربابعًا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لاسيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جاريًا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة.وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب. والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة {وَقَرّى عَيْنًا} وطيبي نفسًا وارفضي عنها ما أحزنك.وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} [الأحزاب: 19] من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه.وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث أنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير.ومن فسر السرى برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسرى من حيث أن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا.وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معى ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام: أنا أكفيك الكلام {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَدًا} أي آدميًا كائنًا من كان.وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي {ترئن} بالإبدال من الياء همزة.وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين.وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الابدال.وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} بسكون الياء وفتح النون خفيفة.قال ابن جنى: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي: {فَقُولِى} له إن استنطقك {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْمًا} وقرأ زيد بن على رضي الله تعالى عنه {صِيَامًا} والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله وقرأ به أنس بن مالك.فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة.وقيل اطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك.وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره.وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام.وروي عن أبكي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي.وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام.وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا.فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الإطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة.فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صومًا لا يكلم اليوم انسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرًا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون وله من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك.والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيًّا} أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تلكم انسيا بغير هذا الأخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمندور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته.وقالت فرقة: امرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر.قال الفراء: العرب تسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأن طريق وصل ما لم يأكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.ويفهم من قوله تعالى: {إِنسِيًّا} دون أحدًا أن المراد فلن أكلم اليوم انسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي.وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن. اهـ.
وقول حسان رضي الله عنه: والمخاض: الطلق، وهو وجع الولادة، وسمي مخاضًا من المخض، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج.وقوله: {قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} تمنت أن تكون قد ماتت قببل ذلك ولم تكن شيئًا يذكر. فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين- فأعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله، وتمنت من أجله أن تكون ماتت فيب ذلك، وكانت نسيًا منسيًا: وهو خوفها أن يتهموها بالزنى، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فه أو سلمت منه. ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفخ فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك، كما قال: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وقال: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] الآية. والذي عليه الججمهور من العلماء: أنا لمراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لًاهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} [مريم: 19] كما تقدم. ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله: {فنفخنا} لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ. فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل إلا منه إلا بمشيئة جل وعلا- أسنده إلى نفسه- والله تعالى أعلم.
|